حكم تلاوة القرآن من المصحف بدون وضوء
القول الأول : أنه لا يجوز له ذلك ، و هو المذهب المنقول عن جمع من الصحابة منهم علي بن أبي طالب ، و عبد الله بن مسعود ، و سعد ابن أبي وقاص ، و عبد الله بن عمر ، و سعيد بن زيد ، و سلمان الفارسي ، وغيرهم ، و لا يعرف لهم مخالف ، و قال به جمهور التابعين و منهم : عطاء بن أبي رباح ، و ابن شهاب الزهري ، و الحسن البصري ، و طاووس بن كيسـان ، و النخعي ، و الفقهاء السبعة ، و هو مذهب الأئمة الأربعة .
القول الثاني : أنه يجوز له مس القرآن ، و إليه ذَهَب بعض التابعين ، و هو مذهب الظاهرية .
116 - مسألة : وقراءة القرآن والسجود فيه ومس المصحف وذكر الله تعالى جائز ، كل ذلك بوضوء وبغير وضوء وللجنب والحائض .
برهان ذلك أن قراءة القرآن والسجود فيه ومس المصحف وذكر الله تعالى أفعال خير مندوب إليها مأجور فاعلها ، فمن ادعى المنع فيها في بعض الأحوال كلف أن يأتي بالبرهان .
فأما قراءة القرآن فإن الحاضرين من المخالفين موافقون لنا في هذا لمن كان على غير وضوء ، واختلفوا في الجنب والحائض. فقالت طائفة : لا تقرأ الحائض ، ولا الجنب شيئا من القرآن ، وهو قول روي ، عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وعن غيرهما روي أيضا كالحسن البصري وقتادة والنخعي وغيرهم .
وقالت طائفة : أما الحائض فتقرأ ما شاءت من القرآن.
وأما الجنب فيقرأ الآيتين ونحوهما ، وهو قول مالك .
وقال بعضهم : لا يتم الآية ، وهو قول أبي حنيفة.
فأما من منع الجنب من قراءة شيء من القرآن ، فاحتجوا بما رواه عبد الله بن سلمة ، عن علي بن أبي طالب أن رسول الله ﷺ لم يكن يحجزه ، عن القرآن شيء ليس الجنابة وهذا لا حجة لهم فيه ; لانه ليس فيه نهي ، عن أن يقرأ الجنب القرآن ، وإنما هو فعل منه عليه السلام لا يلزم ، ولا بين عليه السلام أنه إنما يمتنع من قراءة القرآن من أجل الجنابة.
وقد يتفق له عليه السلام ترك القراءة في تلك الحال ليس من أجل الجنابة ، وهو عليه السلام لم يصم قط شهرا كاملا غير رمضان ، ولم يزد قط في قيامه على ثلاث عشرة ركعة ، ولا أكل قط على خوان ، ولا أكل متكئا.
أفيحرم أن يصام شهر كامل غير رمضان أو أن يتهجد المرء بأكثر من ثلاث عشرة ركعة ، أو أن يأكل على خوان ، أو أن يأكل متكئا هذا لا يقولونه ، ومثل هذا كثير جدا.
وقد جاءت آثار في نهي الجنب ومن ليس على طهر ، عن أن يقرأ شيئا من القرآن ، ولا يصح منها شيء ، وقد بينا ضعف أسانيدها في غير موضع ، ولو صحت لكانت حجة على من يبيح له قراءة الآية التامة أو بعض الآية ; لانها كلها نهي ، عن قراءة القرآن للجنب جملة.
وأما من قال يقرأ الجنب الآية أو نحوها ، أو قال لا يتم الآية ، أو أباح للحائض ومنع الجنب فأقوال فاسدة ; لانها دعاوى لا يعضدها دليل لا من قرآن ، ولا من سنة صحيحة ، ولا سقيمة.
ولا من إجماع ، ولا من قول صاحب ، ولا من قياس ، ولا من رأي سديد ، لإن بعض الآية والآية قرآن بلا شك ، ولا فرق بين أن يباح له آية أو أن يباح له أخرى ، أو بين أن يمنع من آية أو يمنع من أخرى ، وأهل هذه الأقوال يشنعون مخالفة الصاحب الذي لا يعرف له مخالف ، وهم قد خالفوا ههنا عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وسلمان الفارسي ، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة. رضي الله عنهم .
وأيضا فإن من الآيات ما هو كلمة واحدة مثل والضحى و مدهامتان و والعصر و والفجر ومنها كلمات كثيرة كآية الدين ، فإذ لا شك في هذا. فإن في إباحتهم له قراءة آية الدين والتي بعدها أو آية الكرسي أو بعضها ، ولا يتمها ، ومنعهم إياه من قراءة والفجر وليال عشر والشفع والوتر أو منعهم له من إتمام مدهامتان لعجبا.
وكذلك تفريقهم بين الحائض والجنب بأن أمد الحائض يطول ، فهو محال ، لانه إن كانت قراءتها للقرآن حراما فلا يبيحه لها طول أمدها ، وإن كان ذلك لها حلالا فلا معنى للاحتجاج بطول أمدها.
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ، حدثنا عبد الله بن نصر ، عن قاسم بن أصبغ ، عن محمد بن وضاح ، عن موسى بن معاوية ، حدثنا ابن وهب ، عن يونس بن يزيد ، عن ربيعة قال : لا بأس أن يقرأ الجنب القرآن .
وبه إلى موسى بن معاوية ، حدثنا يوسف بن خالد السمتي ، حدثنا إدريس ، عن حماد قال سألت سعيد بن المسيب ، عن الجنب هل يقرأ القرآن فقال : وكيف لا يقرؤه وهو في جوفه .
وبه إلى يوسف السمتي ، عن نصر الباهلي. قال : كان ابن عباس يقرأ البقرة وهو جنب .
أخبرني محمد بن سعيد بن نبات ، حدثنا أحمد بن عون الله ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة ، عن حماد بن أبي سليمان قال : سألت سعيد بن جبير ، عن الجنب يقرأ فلم ير به بأسا وقال : أليس في جوفه القرآن وهو قول داود وجميع أصحابنا.
وأما سجود القرآن فإنه ليس صلاة أصلا ، لما حدثناه عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، ومحمد بن جعفر قالا ، حدثنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء أنه سمع عليا الأزدي وهو علي بن عبد الله البارقي ثقة أنه سمع ابن عمر يقول ، عن رسول الله ﷺ ، أنه قال : صلاة الليل والنهار مثنى مثنى وقد صح عنه عليه السلام ، أنه قال : الوتر ركعة من آخر الليل .
فصح أن ما لم يكن ركعة تامة أو ركعتين فصاعدا فليس صلاة.
والسجود في قراءة القرآن ليس ركعة ، ولا ركعتين فليس صلاة ، وإذ ليس هو صلاة فهو جائز بلا وضوء ، وللجنب وللحائض وإلى غير القبلة كسائر الذكر ، ولا فرق ، إذ لا يلزم الوضوء إلا للصلاة فقط ، إذ لم يأت بإيجابه لغير الصلاة قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع ، ولا قياس.
فإن قيل : إن السجود من الصلاة ، وبعض الصلاة صلاة.
قلنا وبالله تعالى التوفيق : هذا باطل ; لانه لا يكون بعض الصلاة صلاة إلا إذا تمت كما أمر بها المصلي ، ولو أن امرأ كبر وركع ثم قطع عمدا لما قال أحد من أهل الإسلام إنه صلى شيئا ، بل يقولون كلهم إنه لم يصل ، فلو أتمها ركعة في الوتر أو ركعتين في الجمعة والصبح والسفر والتطوع لكان قد صلى بلا خلاف.
ثم نقول لهم : إن القيام بعض الصلاة والتكبير بعض الصلاة وقراءة أم القرآن بعض الصلاة والجلوس بعض الصلاة ، والسلام بعض الصلاة ، فيلزمكم على هذا أن لا تجيزوا لاحد أن يقول ، ولا أن يكبر ، ولا أن يقرأ أم القرآن ، ولا يجلس ، ولا يسلم إلا على وضوء ، فهذا ما لا يقولونه ، فبطل احتجاجهم ، وبالله تعالى التوفيق.
فإن قالوا هذا إجماع .
قلنا لهم : قد أقررتم بصحة الإجماع على بطلان حجتكم وإفساد علتكم وبالله تعالى التوفيق.
وأما مس المصحف فإن الآثار التي احتج بها من لم يجز للجنب مسه فإنه لا يصح منها شيء ; لانها إما مرسلة
وأما صحيفة لا تسند
وأما ، عن مجهول
وأما ، عن ضعيف .
وقد تقصيناها في غير هذا المكان .
وإنما الصحيح ما حدثناه عبد الله بن ربيع قال ، حدثنا محمد بن أحمد بن مفرج ، حدثنا سعيد بن السكن ، حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا شعيب ، عن الزهري أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ابن عباس أخبره أن أبا سفيان أخبره أنه كان عند هرقل فدعا هرقل بكتاب رسول الله ﷺالذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى ، فدفعه إلى هرقل فقرأه ، فإذا فيه " بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ، ولا نشرك به شيئا ، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون. فهذا رسول الله ﷺ قد بعث كتابا وفيه هذه الآية إلى النصارى وقد أيقن أنهم يمسون ذلك الكتاب .
فإن ذكروا ما حدثناه عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا الليث ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : كان ينهى النبي ﷺ أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو يخاف أن يناله العدو فهذا حق يلزم اتباعه وليس فيه أن لا يمس المصحف جنب ، ولا كافر. وإنما فيه أن لا ينال أهل أرض الحرب القرآن فقط .
فإن قالوا : إنما بعث رسول الله ﷺ إلى هرقل آية واحدة. قيل لهم : ولم يمنع r من غيرها وأنتم أهل قياس فإن لم تقيسوا على الآية ما هو أكثر منها فلا تقيسوا على هذه الآية غيرها .
فإن ذكروا قول الله تعالى ﴿ في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون فهذا لا حجة لهم فيه لانه ليس أمرا وإنما هو خبر. والله تعالى لا يقول إلا حقا. ولا يجوز أن يصرف لفظ الخبر إلى معنى الأمر إلا بنص جلي أو إجماع متيقن.
فلما رأينا المصحف يمسه الطاهر وغير الطاهر علمنا أنه عز وجل لم يعن المصحف وإنما عنى كتابا آخر .
كما أخبرحدثنا محمد بن سعيد بن نبات ، حدثنا أحمد بن عبد البصير ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الرحمان بن مهدي ، حدثنا سفيان الثوري ، عن جامع بن أبي راشد ، عن سعيد بن جبير في قول الله تعالى ﴿ لا يمسه إلا المطهرون ) قال : الملائكة الذين في السماء .
حدثنا حمام بن أحمد حدثنا ابن مفرج ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا الدبري حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا يحيى بن العلاء ، عن الأعمش ، عن إبراهيم النخعي ، عن علقمة قال : أتينا سلمان الفارسي فخرج علينا من كنيف له .
فقلنا له : لو توضأت يا أبا عبد الله ثم قرأت علينا سورة كذا فقال سلمان : إنما قال الله عز وجل : في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون وهو الذكر الذي في السماء لا يمسه إلا الملائكة .
حدثحدثنا محمد بن سعيد بن نبات ، حدثنا أحمد بن عبد البصير ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، حدثنا منصور بن المعتمر ، عن إبراهيم النخعي ، عن علقمة بن قيس : إنه كان إذا أراد أن يتخذ مصحفا أمر نصرانيا فنسخه له.
وقال أبو حنيفة : لا بأس أن يحمل الجنب المصحف بعلاقته ، ولا يحمله بغير علاقة . وغير المتوضئ عندهم كذلك .
وقال مالك : لا يحمل الجنب ، ولا غير المتوضئ المصحف لا بعلاقة ، ولا على وسادة. فإن كان في خرج أو تابوت فلا بأس أن يحمله اليهودي والنصراني والجنب وغير الطاهر .
قال علي : هذه تفاريق لا دليل على صحتها لا من قرآن ، ولا من سنة لا صحيحة ، ولا سقيمة ، ولا من إجماع ، ولا من قياس ، ولا من قول صاحب .
ولئن كان الخرج حاجزا بين الحامل وبين القرآن فإن اللوح وظهر الورقة حاجز أيضا بين الماس وبين القرآن ، ولا فرق وبالله تعالى التوفيق .
de
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire